30 - 06 - 2024

حرب غزة 2023 | هل تغامر إسرائيل بفتح جبهة حرب جديدة في لبنان؟

حرب غزة 2023 | هل تغامر إسرائيل بفتح جبهة حرب جديدة في لبنان؟

حسم وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت العائد من واشنطن الموقف بخصوص احتمالات التصعيد العسكري على الجبهة اللبنانية، على ما يبدو، معلناً أن"إسرائيل لا تريد الحرب في لبنان وتفضل الحل الدبلوماسي"، غير أن حلاً دبلوماسيا للوضع على الجبهة الشمالية مستبعد في غيبة الحل الدبلوماسي للحرب في غزة، الأمر الذي يرجح استمرار الوضع على الجبهة الشمالية عند هذا الحد من الضربات المتبادلة بين حزب الله وإسرائيل طالما واصلت إسرائيل حربها في قطاع غزة. يعزز تصريح جالانت الذي انحاز بوضوح لسياسة عدم التصعيد التي تنتهجها واشنطن، عشرات التقارير المنشورة في الصحف الإسرائيلية التي تحذر من أن ثمن مغامرة عسكرية إسرائيلية على الجبهة اللبنانية سيكون أكبر من أي نتائج متوقعة من مثل هذا التصعيد. 

ففي تحليل كتبه لازار بيرمان لصحيفة "تايمز أوف إسرائيل" يوم 19 يونيو أشار إلى أن اجتياح لبنان لن يحل مشكلة الحرائق التي تشعلها المسيرات والصواريخ التي يطلقها مقاتلو حزب الله اللبناني على شمال إسرائيل، وقال "بإمكان الجيش الإسرائيلي أن يستولي على كل شبر من الأراضي" بعمق عشرة كيلومترات أو حتى عشرين كيلومترا داخل الأراضي اللبنانية، لكن ذلك لن يؤثر على قدرة حزب الله على إطلاق الصواريخ على إسرائيل، بل توقع أن تتحول المعركة إلى "حرب مناورات مكلفة" إذ سيتمكن حزب الله من إلحاق أضرار جسيمة داخل إسرائيل، مماثلة للأضرار التي قد تلحقها إسرائيل بلبنان، مؤكداً أن هذا قد يفتح حرباً أخرى هدفها هو ردع حزب الله لا هزيمته من خلال العقاب، في تكرار للاستراتيجية العسكرية التي اتبعتها إسرائيل ضد حماس في قطاع غزة والتي أثبت هجوم السابع من أكتوبر الماضي عدم فعاليتها.

وحذر مقال موسع في صحيفة "يديعوت أحرونوت "من تداعيات" حرب ثالثة مع لبنان"، مشيرة إلى أن عدد القتلى في "إسرائيل" قد يصل إلى 15 ألفاً، وانقطاع للكهرباء في عموم إسرائيل قد يستمر 72 ساعة كحد أدنى، ونقلت عن الجنرال تشارلز براون، رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي قوله، إنه خلافاً لصد الهجوم الإيراني الذي استهدف إسرائيل، في 13 إبريل الماضي، سيكون من الصعب الدفاع عن "إسرائيل" في حربها مع حزب الله، ذلك أن صد الهجوم الإيراني تم على أراضي دول أخرى وبمساعدة حلفاء غربيين وعرب، الأمر الذي لا يتوافر على الجبهة اللبنانية.

تدعم هذه التقارير آراء محللين عسكريين واستراتيجيين إسرائيليين، من بينهم أورنا مزراحي، وهي باحثة كبيرة في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، التي تتبه إلى أن إسرائيل بحاجة إلى "حرب طويلة ومعقدة للغاية” من أجل، مستبعدة امتلاك إسرائيل الاستعداد لتحقيق انتصار في هذه الحرب، التي قد تنتهي باتفاق لوقف إطلاق النار، وهو اتفاق لن يحل مشكلة سكان شمال إسرائيل الذين جرى تهجيرهم منذ الثامن من أكتوبر والذين يشكلون قوة ضغط إضافية على حكومة نتنياهو. وهو اتفاق من غير المرجح أن يعلق سكان الشمال عليه أي آمال كبيرة. من جانبه يرى المنظر العسكري الإسرائيلي عيران أورطال، وهو جنرال سابق في الجيش الإسرائيلي، أن "ثمن" تصعيد الحرب ضد حزب الله "سيكون أعظم بكثير من الإنجاز”، مشيراً إلى أن إسرائيل لا تملك "خيارات كبيرة" محذراً من خطورة "خوض معركة متزامنة ضد حماس وحزب الله" على أمن إسرائيل في ضوء الاستعدادات القتالية الحالية في إسرائيل، مشيراً إلى أن جيشاً تم بناؤه على مدار ثلاثين عاما لعمليات الردع، لن يكون قادراً فجأة على إلحاق هزيمة عسكرية بقوات حماس وحزب الله التي شهدت تطورا في القدرات وفي أساليب القتال على النحو الذي كشفته المواجهة في غزة.

ردع ينهار وآخر يبزغ

أدت التطورات اللاحقة على هجوم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر إلى تحولات في معادلة الردع بين إسرائيل وخصومها. لقد كان هجوم طوفان الأقصى، إذ كان الهجوم إيذاناً بانهيار استراتيجية الردع التي اعتمدت عليها إسرائيل في التعامل مع حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة وكذلك في التعامل مع حزب الله في أعقاب حرب يونيو عام 2006. غير أن مفهوم الردع لا يفسر الكثير من التحولات التي طرأت على نظرية الأمن الإسرائيلي التي يجري تطويرها في ضوء المتغيرات سواء تلك التي كشفتها التجارب العسكرية التي خاضتها إسرائيل، منذ حرب 1948، مروراُ بحروب 1956 و1967 و1973 و1982 و2006، والجولات المختلفة في غزة منذ عام 2006، وكذلك في ضوء التغيرات الحادثة على مستوى التسليح والأساليب القتالية الجديدة والعمليات المسلحة التي تستهدفها، والتي تصفها بهجمات إرهابية، وكذلك الاستعداد للعمل في بيئة أمنية معقدة ومحفوفة بالمخاطر. هذه التغيرات جميعاً كان لها تأثير مباشر على نظرية الردع الإسرائيلية التي شهدت سلسلة من التطورات للتكيف مع المتغيرات في البيئة الداخلية وكذلك في البيئة الإقليمية والدولية.

يمكن القول إن التطورات الأخيرة شهدت تآكلاً في قدرات الردع الإسرائيلية، من ناحية، وتنامي قدرات الردع لدى خصومها، من ناحية أخرى، رغم عدم امتلاك هؤلاء الخصوم لرادع نووي، مماثل للرادع النووي الإسرائيلي المفترض، نظراٌ لأن إسرائيل لم تعتمد رسمياً استراتيجية الردع النووي، رغم خروج تصريحات من مسؤولين إسرائيليين، من حين لآخر، تهدد باستخدام الأسلحة النووية، في محاولة لردع أي تهديدات محتملة لأمنها. فلم يحدث أن أدرجت إسرائيل خيارها النووي في أي استراتيجية عملية للردع، مكتفية بالاعتماد على التفوق النوعي في الأسلحة التقليدية والتفوق التكنولوجي وحرب المعلومات، الأمر الذي دفع كثيراً من الخبراء العسكريين والاستراتيجيين إلى وصف الخيار النووي الإسرائيلي بأنه "الخيار شمشون" حسب تعبير الصحفي الأمريكي المتخصص في الشؤون الاستراتيجية سيمور هيرش، الذي أصدر كتاباً بهذا العنوان، كشف فيه عن تطوير إسرائيل لأسلحة نووية تكتيكية يمكن استخدامها في مسارح عمليات محددة، ولتوجيه ضربات مؤثرة للخصوم تستهدف منشآت حيوية، في سيناريوهات مختلفة للحروب التي قد تنشأ. 

لقد مرت نظرية الردع الإسرائيلية بتطورات كبيرة منذ أن صاغ دافيد بن غوريون، أول رئيس لوزراء إسرائيل، مبادئ الأمن القومي الإسرائيلي، التي ارتكزت على مبدأ، "جيش الشعب"، الذي يتضمن فرض التجنيد الإجباري على جميع اليهودالإسرائيليين (باستثناء طلاب المعاهد الدينية من اليهود "الحريديم")، ومبدأ "الثالوث الأمني" الذي يقوم على ثلاثة أسس، هي: الردع، والضربات الاستباقية، والحسم العسكري. لقد أظهرت المواجهات العسكرية المشار إليها القيود الواردة على بعض مكونات هذين المبدأين الرئيسيين، على النحو الذي انعكس في خطط تطوير الجيش ونظريات الأمن، لكن التحوّل في طبيعة المواجهة العسكرية، في أعقاب حرب أكتوبر 1973، من الحرب ضد جيوش نظامية إلى الحرب غير النظامية مع تنظيمات عسكرية وشبه عسكرية؛ في إدخال مفاهيم أبرزها مفهوم "المعركة بين الحروب"، واستبدال عنصر "الحسم العسكري" بتحقيق "النصر". لكن الحروب التي خاضتها ضد حزب الله في 2006، وضد حماس منذ ذلك العام أيضاً، تطرح إشكاليات فيما يتعلق بمفهوم "النصر"، وتبلورت هذه الإشكالية بشكل خاص في الحرب الأخيرة في غزة، الأمر الذي سيكون له تأثيره على استراتيجية الجيش الإسرائيلي الذي وضع ضمن أهدافه، في عام 2018، السعي إصابة الخصم بحالة من العجز، أو عدم القدرة على الدفاع ما يعزز حالة الردع، وأضيف مفهوم "الردع النسبي"، بدلًا من "الردع الكامل"، والذي يشير امتناع الخصم عن تصعيد المواجهة إلى "حرب شاملة"، على النحو الذي يمارسه حزب الله، الذي يكتفي بتوجيه ضربات محدودة لا تصل إلى حد استفزاز إسرائيل لتصعيد المواجهة إلى حرب شاملة.

غير أن التطور الأهم نجم عن التحولات التي طرأت القدرات العسكرية للتنظيمات المسلحة المنخرطة في القتال ضد إسرائيل، إذ يشير خبراء إلى أن تنامي فاعليّة المقاومة من خلال الهجمات المتمثلة في الهجمات الصاروخية والهجمات بطائرات مسيرة، بل تطوير قدراتها على مواجهة إسرائيل في حرب المعلومات من خلال الانترنت ووسائل التواصل الاجتماع. ودفعت هذه التحولات إسرائيل إلى إضافة عنصر الدفاع إلى نظريتها الأمنية، والتوجه نحو عقد تحالفات إقليمية لمواجهة تعدد الجبهات والساحات، والأهم تطوير قدراتها للصمود في حروب الاستنزاف طويلة الأمد. على الرغم من التحولات التي كشفها هجوم طوفان الأقصى والتطورات اللاحقة والتي تشير إلى قدرات للردع تتنامى لدى الفصائل التي تظهر من خلال تنامي قدراتها القتالية، والاستعداد الأفضل للمعركة من خلال التخطيط وحسن استغلال الموارد المتاحة لديها وادخار موارد أخرى وعدم تبديدها لاستخدامها في الوقت المناسب، واعتماد المقاومة على استراتيجية الاستنزاف، إلا أن من المبكر معرفة ما إذا كان تطور القدرات القتالية لفصائل المقاومة سيترجم إلى قدرات لردع إسرائيل، وسيعتمد هذا التطور على المتغيرات الجديدة التي كشفتها حرب غزة من ناحية وعلى قدرة إسرائيل على إدخال التعديلات اللازمة على هيكل قواتها وخططها العسكرية، من ناحية أخرى.

بداية، كشفت الحرب في غزة وكذلك المواجهات مع حزب الله، أن إسرائيل وخلافاً للمرات السابقة غير قادرة على توجيه ضربات مؤثرة تنال من القدرة التسليحية والقتالية للفصائل الفلسطينية رغم استمرار الحرب قرابة تسعة أشهر، لقد كان كم السلاح المستخدم من قبل الفصائل الفلسطينية في غزة، ونوعيته، بل وقدرة الفصائل المحاصرة على تطوير الأسلحة وتصنيعها، لاسيما "مضادات الدروع"، الأكثر تأثيرا في مسرح العمليات وتطوير قدرات صاروخية ومقذوفات قادرة على خداع منظومة القبة الحديدية للدفاع الصاروخي، علاوة على الاستباق والتنوع في استراتيجيات وتكتيكات المقاومة، علاوة تمتع حزب الله بتدفق للطائرات المسيّرة وغيرها من الأسلحة من إيران، وقدرته على دراسة الدفاعات الجوية الإسرائيلية وتحليلها، ومن ثم امتلاكه لتقدم في أساليب جمع المعلومات والتخطيط العسكري استناداً إليها على النحو الذي كشفته تقارير إسرائيلية وأمريكية حذرت من قدرة حزب الله على شل الدفاعات الصاروخية الإسرائيلية وتهديد المراكز السكانية الإسرائيلية والمنشآت الحيوية بشكل مباشرة وقدرته على حشد المزيد من المقاتلين المدربين، يشير إلى أن القدرات التي يمتلكها الحزب تشكل رادعاً يمنع إسرائيل عن تصعيد المواجهة.

من ناحية أخرى، كشفت العمليات الراهنة عن عدم امتلاك إسرائيل للاستعدادات اللازمة للتعامل مع تغير القدرات العسكرية للتنظيمات المسلحة التي لا يردعها حجم الدمار الذي ألحقته إسرائيل بالبنية التحتية المدنية والعدوان على المدنيين وما أحدثه هذا العدوان من كوارث إنسانية قد تعرض إسرائيل لعقوبات من المجتمع الدولي لاحقاً، والتي تسببت في ضرر بالغ لصورة إسرائيل في الخارج وتزايد الانتقادات الدولية على المستوى الشعبي الضاغط على سياسات حكومات الدول الغربية الداعمة لإسرائيل. وتكشف التقييمات الاستراتيجية أن إسرائيل لم تتمكن بعد من اتخاذ إجراءات للتعامل مع بعض الاستنتاجات المقلقة التي من بينها تآكل التفوق العسكري الكامل الذي تمتع به الجيش بشكل نسبي مع امتلاك حماس وحزب الله، قدرات تقترن بجيوش دول، وتواجدهما في قلب المناطق الحضرية بطريقة لامركزية يمكنها من مهاجمة الجبهة الداخلية لإسرائيل بشكل فعال، وتحييد المزايا التي يتمتع بها الجيش الإسرائيلي. ولم تتمكن إسرائيل من إجراء تعديلات تؤهلها للتعامل مع التغيرات إلا بشكل جزئي لا يمكنها من التغلب على كثير من التحديات الجديدة على مستوى المعلومات والعمليات، سواء فيما يخص المواجهة مع حماس أو مع حزب الله في جنوب لبنان والتي من المتوقع أن تكون أعظم، نظرا لامتلاكه 

أسلحة مضادة للدبابات ومسيّرات هجومية أكثر تقدماً، ووضع قتالي أفضل من خلال القتال وسط دفاعات معدة مسبقاً في منطقة مفتوحة، مما يجعله قادراً على الاستهداف المباشر لقوات الجيش الإسرائيلي من على بعد كيلومترات.

تحولات استراتيجية

أثبتت الحرب الراهنة في غزة وكذلك الحرب في أوكرانيا، الحقيقة المستقرة التي أكدتها نظريات الحرب المختلفة والتي تشير أن قرار إنهاء الحرب ليس كقرار بدئها، فإذا كان من الممكن اتخاذ قرار منفرد بشن الحرب، فإن انهاء الحرب لا يمكن أن يكون بقرار منفرد، إذ تتداخل إرادات كثيرة لتؤثر في مجريات الحرب، كما تنخرط في إدارتها أطراف تتجاوز المنخرطين في القتال، كما تؤثر في مجريات الحرب متغيرات كثيرة تتفاعل، سواء في البيئة الداخلية للأطراف المتحاربة، أوفي البيئتين الإقليمية والدولية.فمن الواضح أنه لا يمكن للقيادة في إسرائيل أو في روسيا اتخاذ قرار منفرد بوقف الحرب أو إنهائها، نظراً للنتائج المتوقع أن تترتب على خطوة كهذه، فقرار كهذا قد يكون بمثابة إعلان للهزيمة، فضلا عن الحسابات الخاصة باحتمالات استغلاله من قبل الخصم المباشر أو أي أطراف أخرى معادية لشن هجوم مضاد قد يكلف الطرف المنسحب خسائر باهظة. وفي ظل هذا الوضع فإن الحروب قد تتحول إلى مصيدة لكثير من الدول، وبغض النظر عن أي موازين للقوى قائمة بين الأطراف المتحاربة. 

غير أن الحروب لا تحكمها حسابات العقل الباردة فقط، إنما تتداخل فيها اعتبارات نفسية تتعلق بالمعتقدات والمشاعر والضغوط التي تمارسها بعض الأطراف، في الداخل أو الخارج، للتأثير على تصورات قادة الدولة ووضعهم في بيئة نفسية قد تدفعهم للحرب. ولا تملك الأطراف المنخرطة في الحرب أو الأطراف غير المباشرة سوى تحسين أدواتها لإدارة الحرب، بما يحقق أفضل مكاسب ممكنة أو يقلل الخسائر إلى الحدود المقبولة والتي يمكن تحملها، وغالباً ما تلعب الأطراف غير المباشرة، لاسيما الأطراف الداعمة، دوراً كبيرة في التأثير على قدرة الأطراف على إدارة الحرب وفق حسابات تخصها، على النحو الذي نراه من خلال تحكم الولايات المتحدة في حجم التسليح المقدم لإسرائيل، وفي مستواه ونوعيته، فالتحكم في إمدادات السلاح هو الذي يحدد إلى حد كبير قدرة هذا الطرف أو ذاك على شن حرب دفاعية أو قدرته على تطويرها إلى حرب هجومية. 

ثمة متغير مهم يتعلق بالحرب في غزة، يجعلها مختلفة عن الحرب الأوكرانية، يتمثل في غياب استراتيجية للحرب، وهذا الغياب هو المسؤول عن طول أمد الحرب من جهة وعدم وجود تصور واضح لدى إسرائيل بخصوص اليوم التالي لانتهاء الحرب، فالاستراتيجية هي الشيء الوحيد الضابط للحروب، والحرب خارج فضائها، تتحول إلى التقاء جيشين يظلان يتقاتلان، حتى يتغلب أكثرهما عددا وعدة على الآخر، وغالباُ ما تكون مثل هذه الحروب مصحوبة بقدر هائل من العنف وسفك الدماء والتدمير، وهو ما نراه متحققاً في غزة، وإسرائيل ليست بحاجة إلى توسيع هذا التخبط في ميدان آخر خصوصاً في ظل متغيرات على الساحة الدولية لا تضمن لها تدفق الدعم بالسلاح والذخيرة والدعم السياسي الذي حظيتبه في بداية الحرب في غزة، على النحو الذي يكشفه تأخير تزويدها بإمدادات تسليحية من الولايات المتحدة للضغط عليها لتعديل موقفها من صفقة لإنهاء الحرب في غزة ومنع التصعيد على الجبهة اللبنانية. 

إن الوضع السياسي الراهن في إسرائيل يشير إلى افتقارها الشديد لقدرات مهمة للتفكير والتخطيط الاستراتيجي، الأمر الذي يعبر عنها الإصرار على مواصلة الحرب في غزة دون تقييم للمتغيرات الداخلية والإقليمية، وتكشف عن تدهور شديد في امتلاك سياسييها الحيلة والذكاء اللازمين لكسب الحرب أو لتحويل نتائج الحرب إلى مكاسب وتقليل المخاطر والتهديدات، على النحو الذي يكشف عنه إفراط القوات الإسرائيلية في العنف والتدمير وسفك الدماء، وهو أمر مخالف لتوصيات كبار المفكرين الاستراتيجيين في العالم بدءا من المفكر الصيني القديم صن تسو، وانتهاء بليدل هارت، الذي يكاد يصرخ قائلاً إنه "إذا كان لا بد من الحرب، فإنه يجب استخدام أكثر الأساليب ذكاء وأقلها وحشية، لتجنب التصعيد المستمر في استخدام آلات التدمير" كي لا تنزلق الحرب إلى نقطة "اللاعودة"، وربما يدرك حلفاء إسرائيل، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، هذه الحقيقة، ويسعون إلى تجنب تصعيد للحرب لا يعرف أحد إلى أين قد ينتهي مع دفع روسيا بقطعة بحرية حربية لإجراء مناورات في البحر المتوسط. 

ولا تفتقر إسرائيل لاستراتيجية عسكرية، بل إنها تفتقر إلى استراتيجية سياسية، بسبب الأزمة التي انتهت إلى تشكيل هذه الحكومة الائتلافية التي تتمتع فيها أحزاب يمينية متشددة بنفوذ يفوق تمثيلها في الكنيست، ومن ثم يغيب تصور يحدد ما هي المصالح العليا التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها من وراء الحرب في غزة أو من وراء تصعيد القتال على الجبهة الشمالية، ويزيد غياب مثل هذه الاستراتيجية من حالة التشوش وغياب الرؤية التي قد تدفع إسرائيل للدخول في مغامرة غير محسوبة، ظناً منها أن التصعيد هو الوسيلة الوحيدة إنقاذ بنيامين نتنياهو وحكومته الائتلافية المتطرفة. ويراهن نتنياهو وشركاؤه على ما يبدو على أن الولايات المتحدة والقوى الغربية الحليفة لها لن تسمح بهزيمة إسرائيل، وستتدخل حتماً لإنقاذها، وهذه حسابات تخالف التقاليد التي اعتمدتها إسرائيل في الدفاع عن أمنها والتي تعتمد في المقام الأول على القدرات الإسرائيلية. 

لقد أثبتت الحرب في غزة والضربات المتبادلة بين إسرائيل وحزب الله أن البيئة الاستراتيجية للصراع تغيرت ولم تترك لإسرائيل بديلاً سوى أن تتحول إلى دولة عادية تواجه معضلة أمنية كغيرها من الدول وأن تتخلى عن عقيدة "الأمن المطلق" الذي لا وجود لها أصلاً، وأن تعتمد على مزيج من الأدوات السياسية والدبلوماسية وبناء تحالفات إقليمية جديدة، لكن مثل هذا التحول لا يتطلب فقط تغيير الحكومة الراهنة وإنما يتطلب ظهور قيادات جديدة قادرة على اتخاذ قرارات استراتيجية شجاعة، ولا يلوح في أفق السياسة الإسرائيلية في الوقت الراهن امتلاكها مثل هذه القيادة، فأقصى ما يمكن التطلع إليه لتجنب التصعيد هو غلبة الأصوات المطالبة بتأجيل الهجوم حتى تكون إسرائيل أفضل استعداداً لخوض الحرب ضد حزب الله، والتي عبر عنها رئيسا الأركان السابقين اللذين انسحبا من مجلس الحرب احتجاجا على سياسات نتنياهو، ما نجده الآن هو الأصوات التي تدفع في اتجاه مغامرة عسكرية بشن حرب واسعة ضد حزب الله استناداً إلى القوة الجوية الإسرائيلية دون تبصر بالنتائج في غزة. على ما يبدو أن الموقف الحاسم للولايات المتحدة هو القادر على لجم هذه الأصوات المتهورة، إذ من الثابت إلى الآن أن إسرائيل مهما بلغ تهورها لا تستطيع الإقدام على هذه الخطوة دون "ضوء أخضر" من واشنطن، إذ ليس هناك ما يضمن تورط الولايات المتحدة في حرب واسعة في المنطقة في عام الانتخابات.
----------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

حرب غزة 2023 | هل تغامر إسرائيل بفتح جبهة حرب جديدة في لبنان؟





اعلان